في قلب صفحات تاريخ الشعوب، حرص الشعب المغربي على أن يسجل بأحرف من نور نضاله ضد الاستعمار، وأعلن المغاربة أنهم غير عابئين بما يسمى "تكافؤ القوة"، بين شعب أعزل، ومحتل غاصب غاشم، ليس لديه أي وازع من ضمير أو إنسانية، فيقتل خصمه لأتفه الأسباب، فما بالك بشخص يرفض الخضوع والخنوع لأوامر، هذا الاحتلالي الوضيع.
بداية اندلاع الشرارة
وقد اندلعت شرارة المقاومة المغربية الأولى، عقب توقيع ما تم تسميته بـ "معاهدة الحماية"، والتي يقصدون منها في الحقيقة "وثيقة الاحتلال"، والتي فجرت المقاومة مسلحة التي بدأت عام 1912 واستمرت حتى عام 193، وعندما فرض الشعب المغربي وجوده على المحتل، تطورت المقاومة وانتقلت إلى المباحثات السياسية غير المشروطة من قبل العدو، وعندما لم تحقق تلك المفاوضات وحدها الحرية للمغاربة، قام الشعب بدعمها مرة أخرى بالكفاح المسلح لينتهي الأمر بإعلان استقلال المغرب، وانتصار الشعب صاحب الأرض على المحتل المغتصب.
الصعاب التي واجهتها المقاومة
ولقد كانت صعوبة المقاومة التي قام بها الشعب المغربي في أنه لم يكن يواجه دولة واحدة هي التي احتلت أرضه، بل كان يحارب في أكثر من جبهة، ضد فرنسا وأسبانيا وقوات دولية أخرى، فهل هناك ما هو أصعب من ذلك؟.. ولعل هذا التنوع في المحتلين للأراضي المغربية كان السبب في تنوع جيوب المقاومة المغربية وأساليبها، وانتشارها في شتى بقاع الأرض المغربية، ففي المناطق الجنوبية، على سبيل المثال، وتحديدًا من مدينة "سوس"، انطلقت المقاومة تحت قيادة البطل الشعبي أحمد الهيبة.
البطل أحمد الهيبة
ويعد الهيبة من أوائل من دعوا إلى المقاومة الشعبية المسلحة ضد الاحتلال الذي تم فرضه تحت ستار "اتفاقية الحماية"، فأعلن البطل الشعبي أحمد الهيبة، نفير الجهاد من قلب "تيزنيت"، وحصل على تأييد ومباعية أهل "سوس"، وانطلقوا في نضالهم الوطني مع بدايات شهر مايو 1912، وقام بتشكيل جيش شعبي من المتطوعين، وانطلق به بقصد ضرب أحد مراكز ومعاقل قيادة جيش الاحتلال الفرنسي، وكان له بالفعل ما أراد، إذ وصل إلى مراكش في 18 أغسطس 1912، ونجح في دخولها ليهاجم إحدى فصائل الجيش الفرنسي بقيادة الكولونيل مانجان Mangin.
معركة سيدي بوعثمان
ولقد دارت بين جيش الهيبة الشعبي، وقوات مانجان المحتلة، واحدة من بطولات المقاومة الشعبية، التي خلدها التاريخ بأحرف من نور ودماء، وذلك في معركة سيدي بوعثمان، ورغم بسالة أبطال المقاومة المغربية، إلا أن الحظ لم يحالفهم في تلك المعركة، فحظوا بهزيمة لفارق السلاح في 6 سبتمبر 1912، واضطر الهيبة ومن تبقى من رجاله إلى الانسحاب، وقرر الفرنسيون الانتقام منهم ومنع ظهور حركات مقاومة أخرى في مراكش، فاقتحموها وعينوا على ولايتها المدني الكلاوي باشا، واستكملوا طريقهم في محاولة للنيل من جيش الهيبة الشعبي، أو ما تبقى منه، ولكنه كان قد توجه نحو الجنوب الغربي، وظل يواصل قيادة المقاومة الشعبية هناك في عمليات خاطفة، حتى وفاته في عام 1919، ولكن المقاومة استمرت بقيادة أخيه مربيه ربه، حتى ذلك الوقت الذي توقفت فيه المقاومة الشعبية مؤقتا، لتفسح المجال للمفاوضات السياسية، وكان ذلك في عام 1934.
السيطرة على الجنوب الغربي
ولقد أغرت هزيمة المقاوم الشعبي أحمد الهيبة ورجاله، في معركة سيدي بوعثمان، المحتل الفرنسي بأنه يمكنه القضاء على المقاومة المغربية كلها، وأنه سيجد من يعملون تحت إمرته، في إدارة البلاد، فاستعان بعدد من الأشخاص ليتولوا إدارة مدن مغربية طرد المقاومين منها، من أمثال: الكلاوي والكندافي والمتوكي، وهكذا أصبح جزء الجنوب الغربي من التراب المغربي، تحت سيطرة المحتل، وذلك في عام 1913، فزاده هذا إحساسًا بالقوة فانطلق نحو تازة، وأخضعها لسيطرته في مايو 1914، وذلك بعد معركة سريعة ولكنها كانت قوية، أجبرت قائد المقاومة هناك البطل الحجامي على الاستسلام.
البطلان الشعبيان أوسعيد وأوحمو
وأحس الكولونيل الفرنسي مانجان أنه بإمانه بتلك القوات التي يقودها السيطرة على ربوع المغرب كله، فشن هجومًا على منطقة الأطلس المتوسط، ووصل إلى تادلة، ولكن الأمر لم يكن مجرد نزهة كما تخيل مانجان، فواجه اثنين من قادة المقاومة الشعبية هناك دفعة واحدة، يقود كل بطل منهما فريق من المتطوعين الذين لا يهابون الموت، وهما البطل موحى أوسعيد، والبطل موحى أوحمو الزياني، واستمرت الحرب بين المقاومة وقوات الاحتلال بعض الوقت، ولكن للأسف فشلت المقاومة بجناحيها في صد هذا الهجوم، فانسحبت من تادلة، لتسقط في يد قوات الاحتلال الفرنسية، في أبريل 1913، وظلت المعركة تدور في رحاها ما بين الكر والفر، فتارة تهجم المقاومة على قوات مانجان، وتارة تهاجم قوات الاحتلال جيوب المقاومة.
المقاومة في الأطلس المتوسط
وظلت المقاومة المغربية في الأطلس المتوسط، تفرض نفسها على جيش الاحتلال الفرنسي، والذي عانى أشد المعاناة في التخلص من البطلين موحي أوسعيد وموحي أوحمو ومن معهما من الرجال، ولكن مانجان لم ييأس وطلب دعمًا عسكريًا من قياداته، وبالفعل حظيت قوات الاحتلال الفرنسي في تلك المنطقة، بمزيد من العتاد والسلاح، وهو ما جعلها أكثر قوة وسراشة، فتوغلت أكثر في المنطقة، حتى أخضعت بني ملال لسيطرة الاحتلال الفرنسي في صيف 1916، ولكنها رغم ذلك فشلت في القضاء على على البطلين أوسعيد وأوحمو، أو إلقاء القبض عليهما طوال تلك الفترة، وانسحب البطل الشعبي موحى أوسعيد إلى القصيبة، ليتحصن بها ويشن من هناك هجومات خاطفة على قوات الاحتلال، وذلك حتى أبريل 1922، أما البطل الشعبي موحى أوحمو إلى خنيفرة، حيث انسحب منها ليدخل إليها الكولونيل هنريس Henrys، القائد الجديد لقوات الاحتلال الفرنسية في تلك المنطقة، على رأس عناصر من الجيش المحتل، ولكن أوحمو ورجاله لم يستسلموا للوضع الجديد، فقاموا في نوفمبر 1914 بشن هجوم ضد قوات الاحتلال الفرنسية، وذلك في معركة الهري، والتي تلاها حصار أبطال المقاومة المغربية لقوات الاحتلال الفرنسي، حتى دارت معركة أزلاغن تزمورت، والتي أسفرت عن استشهاد موحي أوحمو في عام 1921.
الكفاح ضد الاحتلال الأسباني
ولم تكن تلك هي فقط جيوب المقاومة المغربية ضد الاحتلال، هي فقط كانت ضد المحتل الفرنسي، ولكن هناك صفحات أخرى من النضال الوطني، خاضها الشعب المغربي في مناطق أخرى، للزود عن التراب الوطني، ففي الريف المغربي قاد الشريف محمد أمزيان المقاومة الشعبية المسلحة هناك، ضد الاحتلال الأسباني، ولكنه لم يستمر طويلًا في ذلك، إذ أنه استشهد في مايو 1912، لتظل المقاومة بلا قائد قوي، وإن لم تتوقف عن أرباك قوات الاحتلال، على فترات متباعدة، وبعمليات محدودة جدًا، حتى عاد لنشاطها القوي في أغسطس 1920، بقيادة البطل الشعبي محمد بن عبد الكريم الخطابي، والذي وحد القبائل المغربية الريفية، وقام بتنظيم المتطوعين منهم في هيئة أشبه بالجيش الشعبي، وحرص على تدريبهم جيدًا وتنظيم صفوفهم، حتى أنه قد استطاع في 12 يوليو 1921، ضمن معركة أنوال، إلحاق الهزيمة بقوات الاحتلال الإسبانية، والتي كان يتول قيادتها الجنرال سيلفستري Sylvestre، وهو ما عزز من قوة المقاومة الشعبية في قلب الريف المغربي، حتى أنها قد نجحت في إجبار الجيش الإسباني المحتل على الانسحاب من أجزاء من المناطق الشمالية.
وكانت المقاومة المغربية بقيادة الخطابي في الريف المغربي، كلما نجحت في تحقيق انتصار على العدو الأسباني، كلما حشدت قواتها أكثر، وشنت هجومًا جديدًا ضده، وهو ما دفع أسبانيا وفرنسا لإعلان التحالف المشترك بين جيشيهما في المغرب، في عام 1923، وذلك من أجل الحد من توغل وقوة المقاومة المغربية بقيادة الخطابي، والتي اقتربت من تحرير فاس، بجيش شعبي بلغ 20 ألف متطوع من الريفيين، ولكنهم اصطدموا بقوات التحالف الإسباني الفرنسي، والذي كان يتكون من 800 ألف جندي، تم تدريبهم جيدًا، وتزويدهم بأحدث الأسلحة، وأكثرها قوة، وظلت الهجمات المتبادلة بين الفريقين مستمرة، وأدت حماسة المقاومة المغربية بقيادة الخطابي وقوتها وإصرار رجالها على النصر، إلى دفع تحالف الاحتلال إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، التي أحدثت فارقًا جوهريًا في المعارك، مما اضطر الخطابي إلى الاستسلام ومعه ما تبقى من الرجال في27 مايو 1926، وخوفًا من تحويله إلى أسطورة خشيت قوات الاحتلال من إعدامه، فتم نفيه إلى جزيرة لارينيون La Réunion، والتي عاش بها لبعض الوقت، ثم انتقل إلى منفى آخر في مصر، واستقر هناك حتى وفاته.
تعليقات
إرسال تعليق
ما رأيك بالموضوع الذي قرأته للتو