يدخل ابن دنيال صاحب خيال الظل بعربته الفنية ليقدم فرجته للجمهور مع ابنته دنيازاد التي تذكرنا بأسماء شخوص ألف ليلة وليلة. لكن المسئول عن الستارة يرفض السماح له بالدخول ما دام العرض المسرحي لم يبدأ؛ لكنه سيتعرف عليه بعد أن يكتشف أنه من كبارالمتخصصين في خيال الظل، وقد أتى إلى الركح من أوراق التراث الصفراء ليظهر ما لديه من الحكايات بدلا من هذه المشاهد التي يسعى أصحابها إلى بنائها، وفيها يفصلون الأغنياء عن الفقراء، بينما المسرح حفل واحتفال ومشاركة جماعية:
-عامل الستار: سأرفع الستار ولكن ليس الآن. عمال المناظر لم يكملوا البناء بعد.
-ابن دنيال: عمال البناء؟...لكن، أي شئ يبنون الآن؟ أريد أن أعرف ذلك.
-عامل الستار: لن ترى جديدا....
-ابن دنيال: ماذا أسمع؟
-عامل الستار...فمنذ كان المسرح والمناظر محصورة في شيئين. القصور للأغنياء...
-ابن دانيال: ..والأكواخ للفقراء... [1]
ويعرف ابن دنيال بنفسه وابنته ويقدمان نفسهما للجمهور كراويين يقدمان له مجموعة من شخصيات خيال الظل قصد تسليته وإفادته، وأن ابن دنيال المخايل نزل من التاريخ المنسي إلى هامش الحاضر ليزرع بشارته وأمله في المستقبل:
-ابن دنيال: أحبتي. أتيتكم من بين الصفحات الصفر الباليات.
من الزمن المعلب النائم فوق الرفوف.
كنت حرفا تائها. معلقا منشورا فوق حبل الزمن
فجئتكم، كدفقة نور كموجة صوت كليل يمطر أقمارا ونجوما ساطعات [2]
بعد ذلك، يتحلق الأطفال حول عربة خيال الظل التي تنعكس في ستارتها الظلال والأضواء لتنسج أنفاسا احتفالية من الخيال والواقع، ولتعبر بحكاياتها عن فئات مجتمع المدائن والأقطار، بكل تناقضاتها الحياتية. وينتقل الكاتب من لعبة خيال الظل إلى الواقع، واقع المدينة القصديرية حيث نلتقي بسكانها، لاسيما حمدان ورضوان وسعدان، هذه الطبقة الشعبية التي أنهكتها الظروف المزرية كالفقر والداء والبطالة. يقصد المقدم هذه الفئة ليخبرها بضرورة الرحيل لتحويل هذا الحي إلى فنادق سياحية تجذب السياح وتدر العملة الصعبة على البلد ريثما يجد لهم المجلس البلدي مكانا لإيوائهم. لكن أهل الحي رفضوا هذا المقترح وقرروا أن يكون موعد الرحيل من اختيارهم أنفسهم بدلا من أن يفرض عليهم. وتدل الأسماء العلمية التي يحملها الثلاثة على السخرية والتهكم والمفارقة إذ يدل حمدان على الحمد، وسعدان على السعادة، و رضوان على الرضا، على غرار عنوان المسرحية الذي يثير الحيرة والاستغراب المفارق.
ويحاول ابن دنيال أن يستقطب أهل الحي وأطفاله لكي يقدم لهم فرجة تنعكس على خيال الظل بعوالمه الغريبة وشخصياته التاريخية والأسطورية. لكن هذه الحكايات لم تعد تثير فضول السامعين وتشد انتباههم، لأنها حسب دنيازاد بعيدة عن واقعهم الذي يعيشون فيه. لذلك اختارت دنيازاد أن يكون الموضوع قريبا من حقيقة المشاهدين يمس مشاكلهم ويعالج قضاياهم، أي يكون المعطى الفني شعبيا. وهذا ما قرر ابن دنيال أن يفعله، أن يحكي لهم قصة الشاعر ابن الرومي في مدينة بغداد التي قد تكون قناعا لكل المدن المعاصرة، كما يكون ابن الرومي قناعا لكل المثقفين المعاصرين.
ابن دنيال: ابن الرومي الذي رسمته وقصصته بيدي ليس وليد بغداد التي تعرفون... شاعر الليلة يا سادتي قد يكون من باريز، من روما، من البيضاء، أو من وهران. قد يكون علي بن العباس أو قد يكون الشاعر لوركا. قد يكون المجذوب أو بابلونيرودا. قد يكون من حيكم هذا. [3]
ينقلنا ابن دنيال عبر ظلاله إلى بغداد المعاصرة بأكواخها الفقيرة وأحيائها القصديرية لنجد ابن الرومي منطويا على ذاته، لا يريد أن يفتح بابه على العالم الخارجي ليرى الواقع على حقيقته: «هل أفتح الباب أو لا أفتحه؟ هل أفتحه؟ يومك يا ابن الرومي لغز محير، وأحلامك يا ضيعتي رموز غامضة... أحيا بين رمز ولغز.»[4]
ويزداد ابن الرومي- الشاعر المنكمش- الخائف على نفسه من العالم الخارجي تشاؤما وتطيرا من الوجوه التي كان يجاورها في حيه الشعبي المتواضع: أشعب المغفل الذي يتهمه ابن الرومي بالغيبة والنميمة ونقل الأخبار بين الناس والتطفل عليهم، وجحظة الحلاق الذي يزعجه بأغانيه المستهجنة، ودعبل الأحدب بائع العطور والمناديل الذي يعتبره وجه النحس والشقاء، وعيسى البخيل الإسكافي العجوز الذي كان يعتبره رمزا للشح والتقتير. كل هذه الوجوه الشقية المنحوسة كان يتهرب منها الشاعر، ويكره العالم لأنه لم يجد إلا بيتا يطل على البؤساء والأشقياء والمعوقين. لذا أغلق بابه على هؤلاء الناس ولم يتركه مفتوحا إلا للذين يغدقون عليه بالنعم والفضائل من أمثال الممدوحين والأغنياء ورجال السلطة والأعيان خاصة رئيس المجلس البلدي. ويقصد الشاعر بيت عمته الرباب باحثا عن جارية حسناء ترافقه في دهاليز الحياة وتسليه في دروبها المظلمة الدكناء. ولم يجد سوى عريب الشاعرة الجميلة التي دفع فيها كل ما اكتسبه من شعره ومدحه قصد الظفر بها، عشيقة وأنيسة تشاركه سواد الليالي ووحدته المملة القاتلة في كوخه الذي لا يسعد أي إنسان ولاسيما أنه يجاور دكاكين الجيران المنحوسين الأشرار، مما جعله يعاني من عقدة التطير والانطواء على الذات والهروب من بغداد وعالمها الخارجي ليعيش في أحضان عريب سلطانة الحسن والدلال بكل حواسه.
ويتحول ابن الرومي من شاعر مثقف إلى شاعر انتهازي لا يهمه سوى الحصول على منح رجال الجاه والسلطة، حيث يشتري رئيس المجلس البلدي ذمته بكتابة قصيدة شعرية يصور فيها بؤس الحي الصفيحي الذي يعيش فيه مع أولائك المنحوسين الأشقياء قصد طردهم، وهدم أكواخه التي يعشش فيها الفقر والداء والنحس قصد بناء فنادق سياحية تجلب العملة الصعبة لحكام بغداد الأثرياء وأعوانهم:
الخادم يا زمان: .. المهم يا ابن الرومي أن المجلس البلدي قد اتخذ قرارا بهدم هذا الحي... لا تنزعج على بيتك، سيكون لك ما هو أحسن، نعم، لقد فكروا فيك جيدا. ستتحول هذه الأكواخ الحقيرة إلى مركب سياحي ضخم يأتيه السواح الأغنياء ... المجلس البلدي لا يطلب منك ... غير أبيات من الشعر. أبيات تصور الحي الحقير وأهله»[5]
ينتقل ابن الرومي- كما يقدمه الراوي- من شاعر متشائم متكسب إلى شاعر حالم ومغترب عن واقعه الخارجي، يعيش الخيال في واقعه يركب السحاب وهو معلق بالتراب الأرضي وكوخه الحقير يتأفف من جيرانه الذين يحبونه ويشعرون به أيما شعور وإحساس:
«عدتم من جديد، أنتم عذابي الذي يمشي وينطق، متى تفهمون أن حضوركم يسرق النور من أيامي؟ أجيبوني! أليس من حقي أن أحيا ككل الناس؟
اغربوا عن وجهي واتركوني أجتر عذابي... ابتعدوا عن بابي وأعتابي، لقد لوثتم الضياء والهواء...»[6]
يتصالح ابن الرومي مع جيرانه الذين قرروا الارتحال بعيدين عنه حتى يكون سعيدا في حياته ماداموا قد أصبحوا في رأيه رموز الشر والنحس. لكن ابن الرومي سيتعلم درسا مفيدا من عريب- صارت حرة بعد انعتاقها من عبودية العقود المزيفة- اختارت أن تعيش معه بشرط أن يفتح بابه لجيرانه الذين هم ضحايا الواقع والاستغلال، وأن تعيش معه في هذا الحي الشعبي مع هؤلاء الناس الطيبين الأبرياء الذين همشوا من قبل المسئولين وأصحاب القرار الذين يريدون ترحيلهم قصد الاستيلاء على ممتلكاتهم وحيهم الذي يسكنون فيه لاستثماره في مآربهم الشخصية:
عريب: لقد منحتني حق الاختيار وقد اخترت. اخترت أن أكون إلى جوارك، إلى جوار دعبل وعيسى وجحظة وأشعب وغير هؤلاء. إنني أراك واقفا في بركة ماء وعيونك فوق... سجين بغداد وأشياخها وسجين نفسك.»[7]
هكذا، يصبح ابن الرومي شاعرا ثائرا يتصالح مع جيرانه ويمنعهم من الرحيل ويعترف بأخطائه الجسيمة التي ارتكبها في حقهم، وبأن سماسرة السراب هم المسئولون عن هذا الاستلاب والتخدير الاجتماعي، ووعدهم أن يكونوا يدا واحدة في وجه المستغلين وبائعي الأحلام الزائفة:
ابن الرومي: ... لأول مرة أشعر بأنني أحيا وأتنفس وأرى. اقتربوا، اقتربوا يا من في أحداقكم أقرأ ما في القلب. قلوبكم ناصعة ظاهرة. أراها منشورة أمام الكل على حبل الغسيل... أشعب، يا رسول الحي وقلبه، .. وأنت يا جحظة، يا كروان حي الصفيح، غنيت عذابنا وشقاءنا، غنيت أفراحنا... وأنت يا دعبل...[8]
في الأخير، تختار عريب أن تدفع الشاعر لمعرفة العالم الخارجي قصد تحريره من أوهامه وأحلامه وانكماشه الداخلي واغترابه، هكذا ترسله ليبحث لها عن الخلخال الذي ضاع منها في السوق؛ وبعد تردد وتجاهل قرر ابن الرومي أن ينزل عند رغبة عريب وأن يبحث عن خلخالها:
عريب: (تحدث نفسها في حزن) يا الله! ماذا فعلت؟ بعثت به إلى السوق لا ليعود بالخلخال ولكن لأحرره من نفسه وأوهامه. تراني فعلت خيرا أم ارتكبت خطأ قاتلا؟ لست أدري.» [9]
يعود الكاتب إلى خيال الظل وصاحبه ابن دنيال الذي ثار عليه المشاهدون من أهل الحي القصديري، حيث لم يمنحهم الحلول، أويخبرهم عن ابن الرومي الثائر الذي خرج إلى السوق باحثا عن الخلخال الضائع. لكن ابنته دنيازاد- وعلى عكس أبيها الذي مازال يعيش أحلام الماضي- تدعو إلى الثورة والنضال والتغيير من أجل الدفاع عن الحقوق المشروعة، فتختار الحركة بدلا من اللفظ البراق والشعارات الجوفاء:
دنيازاد: أنت واهم يا أبي، ليس هناك إلا عالم واحد ومدينة واحدة...الكلمة التي تفتقر إلى الحركة هي كلمة زائفة تماما كعملة بلا رصيد. وجودنا داخل المدينة وعذابها أشياء لا يمكن القفز فوقها. تعال يا أبي.. عذاب الفقراء ما كان يوما فرجة ولن يكون أبدا. [10]
تجسد المسرحية- إذا- تقابلا بين عالمين: عالم الكلمة وعالم الحركة، وعالم الخيال والواقع، إنها ثنائية جدلية تصور صراع المثقف العربي مع السلطة والواقع وأخيه الإنسان. لقد لاحظنا كيف أن ابن الرومي مر بعدة مراحل عبر المسرحية:
1- ابن الرومي الشاعر المتشائم المنكمش
2- ابن الرومي الشاعر العاشق
3- ابن الرومي الشاعر المتكسب والمستلب
4- ابن الرومي الشاعر الثائر المتحرر من أوهامه
فبعد الموت والضياع والاستلاب والانكماش الذاتي والموضوعي، يعود الشاعر إلى الحياة مرة أخرى شاعرا جديدا يعانق قضايا الناس وهمومهم ويكابد آلامهم ومعاناتهم، ويحارب معهم سماسرة الزيف والسراب. إنه يموت لينبعث من جديد على غرار أسطورة العنقاء التي قوامها الاحتراق والموت والتجدد مرة أخرى، بفضل فلسفة عشيقته عريب التي اقترحت عليه أن يتيه في العالم الخارجي ليعرف الواقع على حقيقته الواضحة. ويرى برشيد أن هذه المسرحية شاملة ومركبة من عدة مستويات: «المسرحية تعتمد على بناء مركب. بناء تجسده مستويات متعددة ومتناقضة- مستوى الواقع- ومستوى خيال الظل- الحقيقة- الحلم- الوعي- اللاوعي- الحاضر- الماضي- ال (هنا)- ال (هناك) ويمكن أن نحصر كل هذا المستويات وأن نختصرها في مستويين اثنين أساسين: مستوى الواقع، حيث الأحداث داخل حي قصديري منتزع من نفس المدينة التي تعرض بها المسرحية ومن نفس زماننا. أما المستوى الثاني فيدور داخل صندوق خيال الظل... على هذا الأساس فإن قصة ابن الرومي لا يمكن أن ينظر إليها نظرة واحدة موحدة...»[11]
المسرحية مركبة من لوحتين منفصلتين: لوحة واقع المدينة بأحيائها القصديرية وانتشار الفكر الاستغلالي والتفاوت الطبقي (لوحة الواقع الاجتماعي)، ولوحة ابن الرومي التي يعكسها التخييل الدرامي عن طريق خيال الظل (التخييل التاريخي والتراثي). وداخل هذا السرد التخييلي نجد صراعا بين راو يعيش على أنقاض الماضي والبطولة الضائعة، وراو يعيش عصره ويعانق همومه مثل المثقف العضوي الذي تحدث عنه غرامشي. كما أن المسرحية تزاوج بين الأصالة «ابن الرومي- ابن دانيال»، وبين المعاصرة «واقع المدينة». وتبقى المدينة فضاء دراميا وسينوغرافيا لكثير من الكتابات المسرحية، لما لهذا الفضاء المعاصر من آثار سلبية على الإنسان المعاصر بسبب الطابع التشييئي للعلاقات الإنسانية الناتجة عن الرأسمالية الجشعة والليبرالية الفردية والعولمة، كما نجد عند برشيد نفسه: «إمرؤ القيس في باريس» و«النمرود في هوليود»، أو عند المسكيني الصغير: «عودة عمر الخيام إلى المدينة المنسية» و«الخروج من معرة النعمان»، و«أهل المدينة الفاضلة» لرضوان احدادو و«مرتجلة فاس» لمحمد الكغاط و«مدينة العميان» لمحمد الوادي و«الهجرة من المدينة» لعبد الكريم الطبال.
الصراع الدرامي في المسرحية
يتمثل الصراع الدرامي في صراع المثقف ضد الاستلاب والاستغلال من خلال صورة ابن الرومي الشاعر ورئيس المجلس البلدي وسماسرته المزيفين، وصراع أهل الحي القصديري (حمدان ورضوان وسعدان)، ضد المقدم. وهذا ما يجسد الصراع الطبقي والاجتماعي بين الفقراء وأهل الجاه والسلطة. كما أن هناك صراعا بين الفكر المثالي (ابن دنيال- ابن الرومي في بداية المسرحية ووسطها) والفكر الواقعي (حمدان ورضوان وسعدان ودنيازاد وعريب)، وصراعا بين المستغلين بكسر الغين (المقدم –رئيس المجلس البلدي ...) والمستغلين بفتح الغين (كسعدان ورضوان وحمدان وابن الرومي وأشعب المغفل ...)، ناهيك عن الصراع بين الفن والواقع، وبين الانغلاق والانفتاح، وبين الذات والموضوع، وبين الماضي والحاضر. لكن هذا الصراع في جوهره ليس عموديا كما كان في التراجيديات اليونانية الكلاسيكية بين البطل والآلهة بل هو صراع أفقي بين الإنسان والإنسان.
الفضاء السينوغرافي
يقع النص في فضاءين متقابلين: بغداد التراث بأكواخها الفقيرة والمدينة المعاصرة التي قد تكون الدار البيضاء بأحيائها القصديرية أو مدينة معاصرة أخرى، دون أن ننسى الفضاء الاحتفالي وهو الخشبة بخيال ظلها. ويلاحظ أن هناك تداخلا في الأمكنة والأزمنة (الماضي/الحاضر) مما يجعل المسرحية تنزاح عن القاعدة الأرسطية (الوحدات الثلاث) في بناء النص المسرحي. لكن ما هي تجليات الاحتفالية في هذه المسرحية من حيث المعطى الدلالي والسينوغرافي؟
تجليات الاحتفالية في المسرحية
من أهم تمظهرات النظرية الاحتفالية في هذه المسرحية نجد التعيين الجنسي تحت اسم «احتفال مسرحي» بدل العرض المسرحي أو النص المسرحي، وهذا يدل على مدى انتماء النص إلى المسرح الاحتفالي الذي استبدل كثيرا من المصطلحات كتقسيم الفصول إلى لوحات احتفالية وتسمية الكتاب بالنص الاحتفالي. كما يحمل العنوان عنصر الإدهاش والفانتازيا والتغريب والمفارقة من خلال استخدام التراث في جدلية مع الواقع المعاصر والعزف على إيقاع تداخل الأزمنة: الحاضر والماضي. وتظهر الاحتفالية في اعتبار المسرح حفلا واحتفالا يشمل التمثيل والرقص والشعر والغناء والزجل، والثورة على الدقات التقليدية الثلاث والخشبة الإيطالية بمناظرها وكواليسها وستاراتها ونزع الأقنعة التي تذكرنا بنظرية التغريب البريختية وتكسير الجدار الرابع لأن ابن دانيال ودنيازاد ينطلقان من الصالة ليمرا إلى الخشبة كما في اللوحة الاحتفالية الأولى، وتتجلى أيضا في استخدام الذاكرة الشعبية كاستنطاق خيال الظل المرتبط بابن دانيال وتوظيف السينما والمسرح داخل المسرح (مسرحة الجواري الثلاث لمعلمتهن رباب وهي تصدر أوامرها)، والاعتماد على لغة متنوعة كالحوار والشعر والمنولوج والسرد الحكائي كما نجده لدى ابن دانيال علاوة على لغة الرقص والغناء.
وتحضر الاحتفالية في الواقعية الشعبية التي تتجسد في معانقة هموم الفقراء والطبقة الكادحة وتصوير مدن الصفيح ومعاناة سكانها من الطرد التعسفي والاستغلال والظلم وتهديدات أصحاب النفوذ والسلطة. كما تتجلى هذه الشعبية في ذلك التواصل الحميمي بين الممثلين والجمهور وبين الراوي والطبقة الشعبية وابن الرومي مع أهل حيه. كما تنتهي المسرحية بخاتمة احتفالية تتمثل في الأمل والتغيير والتبشير بمستقبل جديد ما دام هناك إرادة التحدي والإصرار والكفاح.
سينوغرافيا، وظف الكاتب تقنيات المسرح الفقير كالستائر والمصطبة والإطارات والنوافذ التي تشكل دور القصدير ودار ابن الرومي والدكاكين الصغيرة والساحة. أما الإكسسوارات والملحقات فكانت وظيفية واحتفالية كعربة خيال الظل والشمع وآلة العود والسبحة والأقنعة والمناشير والكتاب... كما تبدو الموسيقى التصويرية وظيفية تتلون سيميائيا وسياقيا وتتغير بتغير اللوحات والمشاهد الدرامية. وتتخذ الملابس دلالات سيميائية كأثواب الغجر عند ابن دنيال وابنته أو لباس العمال عند رضوان أو لباس الويسترن الأمريكي عند عاشور. إنها دلالات مختلفة ذات شفرة رمزية احتفالية. أما اللغة فهي لغة احتفالية تقوم على الحوار والشعر والرقص والغناء والفصحى والعامية والسخرية والمفارقة والفكاهة اللعبية. كما تتجلى الاحتفالية في تكسير الوحدات الثلاث: فهناك تعدد الأمكنة (المدينة المعاصرة- بغداد ابن الرومي) وتداخل الأزمنة (الماضي والحاضر والمستقبل) وتعدد الأحداث (قصة ابن الرومي- قصة سكان الحي القصديري مع المقدم) وتركيب اللوحات الدلالية المنفصلة التي تنزاح عن القالب الأرسطي الذي يتميز بالاتساق الدلالي (لوحة المدينة المعاصرة منفصلة دلاليا عن لوحة ابن الرومي على الرغم من وجود التوازي والتماثل البنيوي والإيقاعي).
خلاصة القول، إن «ابن الرومي في مدن الصفيح» خير نموذج درامي ونص مسرحي يعبر بكل وضوح وجلاء عن النظرية الاحتفالية باعتبارها بديلا للمسرح الغربي الأرسطي، كما أن هذا النص الاحتفالي يشكل مرحلة مهمة في تأصيل المسرح العربي وتأسيسه.
المسرحية مركبة من لوحتين منفصلتين: لوحة واقع المدينة بأحيائها القصديرية وانتشار الفكر الاستغلالي والتفاوت الطبقي (لوحة الواقع الاجتماعي)، ولوحة ابن الرومي التي يعكسها التخييل الدرامي عن طريق خيال الظل (التخييل التاريخي والتراثي). وداخل هذا السرد التخييلي نجد صراعا بين راو يعيش على أنقاض الماضي والبطولة الضائعة، وراو يعيش عصره ويعانق همومه مثل المثقف العضوي الذي تحدث عنه غرامشي. كما أن المسرحية تزاوج بين الأصالة «ابن الرومي- ابن دانيال»، وبين المعاصرة «واقع المدينة». وتبقى المدينة فضاء دراميا وسينوغرافيا لكثير من الكتابات المسرحية، لما لهذا الفضاء المعاصر من آثار سلبية على الإنسان المعاصر بسبب الطابع التشييئي للعلاقات الإنسانية الناتجة عن الرأسمالية الجشعة والليبرالية الفردية والعولمة، كما نجد عند برشيد نفسه: «إمرؤ القيس في باريس» و«النمرود في هوليود»، أو عند المسكيني الصغير: «عودة عمر الخيام إلى المدينة المنسية» و«الخروج من معرة النعمان»، و«أهل المدينة الفاضلة» لرضوان احدادو و«مرتجلة فاس» لمحمد الكغاط و«مدينة العميان» لمحمد الوادي و«الهجرة من المدينة» لعبد الكريم الطبال.
الصراع الدرامي في المسرحية
يتمثل الصراع الدرامي في صراع المثقف ضد الاستلاب والاستغلال من خلال صورة ابن الرومي الشاعر ورئيس المجلس البلدي وسماسرته المزيفين، وصراع أهل الحي القصديري (حمدان ورضوان وسعدان)، ضد المقدم. وهذا ما يجسد الصراع الطبقي والاجتماعي بين الفقراء وأهل الجاه والسلطة. كما أن هناك صراعا بين الفكر المثالي (ابن دنيال- ابن الرومي في بداية المسرحية ووسطها) والفكر الواقعي (حمدان ورضوان وسعدان ودنيازاد وعريب)، وصراعا بين المستغلين بكسر الغين (المقدم –رئيس المجلس البلدي ...) والمستغلين بفتح الغين (كسعدان ورضوان وحمدان وابن الرومي وأشعب المغفل ...)، ناهيك عن الصراع بين الفن والواقع، وبين الانغلاق والانفتاح، وبين الذات والموضوع، وبين الماضي والحاضر. لكن هذا الصراع في جوهره ليس عموديا كما كان في التراجيديات اليونانية الكلاسيكية بين البطل والآلهة بل هو صراع أفقي بين الإنسان والإنسان.
الفضاء السينوغرافي
يقع النص في فضاءين متقابلين: بغداد التراث بأكواخها الفقيرة والمدينة المعاصرة التي قد تكون الدار البيضاء بأحيائها القصديرية أو مدينة معاصرة أخرى، دون أن ننسى الفضاء الاحتفالي وهو الخشبة بخيال ظلها. ويلاحظ أن هناك تداخلا في الأمكنة والأزمنة (الماضي/الحاضر) مما يجعل المسرحية تنزاح عن القاعدة الأرسطية (الوحدات الثلاث) في بناء النص المسرحي. لكن ما هي تجليات الاحتفالية في هذه المسرحية من حيث المعطى الدلالي والسينوغرافي؟
تجليات الاحتفالية في المسرحية
من أهم تمظهرات النظرية الاحتفالية في هذه المسرحية نجد التعيين الجنسي تحت اسم «احتفال مسرحي» بدل العرض المسرحي أو النص المسرحي، وهذا يدل على مدى انتماء النص إلى المسرح الاحتفالي الذي استبدل كثيرا من المصطلحات كتقسيم الفصول إلى لوحات احتفالية وتسمية الكتاب بالنص الاحتفالي. كما يحمل العنوان عنصر الإدهاش والفانتازيا والتغريب والمفارقة من خلال استخدام التراث في جدلية مع الواقع المعاصر والعزف على إيقاع تداخل الأزمنة: الحاضر والماضي. وتظهر الاحتفالية في اعتبار المسرح حفلا واحتفالا يشمل التمثيل والرقص والشعر والغناء والزجل، والثورة على الدقات التقليدية الثلاث والخشبة الإيطالية بمناظرها وكواليسها وستاراتها ونزع الأقنعة التي تذكرنا بنظرية التغريب البريختية وتكسير الجدار الرابع لأن ابن دانيال ودنيازاد ينطلقان من الصالة ليمرا إلى الخشبة كما في اللوحة الاحتفالية الأولى، وتتجلى أيضا في استخدام الذاكرة الشعبية كاستنطاق خيال الظل المرتبط بابن دانيال وتوظيف السينما والمسرح داخل المسرح (مسرحة الجواري الثلاث لمعلمتهن رباب وهي تصدر أوامرها)، والاعتماد على لغة متنوعة كالحوار والشعر والمنولوج والسرد الحكائي كما نجده لدى ابن دانيال علاوة على لغة الرقص والغناء.
وتحضر الاحتفالية في الواقعية الشعبية التي تتجسد في معانقة هموم الفقراء والطبقة الكادحة وتصوير مدن الصفيح ومعاناة سكانها من الطرد التعسفي والاستغلال والظلم وتهديدات أصحاب النفوذ والسلطة. كما تتجلى هذه الشعبية في ذلك التواصل الحميمي بين الممثلين والجمهور وبين الراوي والطبقة الشعبية وابن الرومي مع أهل حيه. كما تنتهي المسرحية بخاتمة احتفالية تتمثل في الأمل والتغيير والتبشير بمستقبل جديد ما دام هناك إرادة التحدي والإصرار والكفاح.
سينوغرافيا، وظف الكاتب تقنيات المسرح الفقير كالستائر والمصطبة والإطارات والنوافذ التي تشكل دور القصدير ودار ابن الرومي والدكاكين الصغيرة والساحة. أما الإكسسوارات والملحقات فكانت وظيفية واحتفالية كعربة خيال الظل والشمع وآلة العود والسبحة والأقنعة والمناشير والكتاب... كما تبدو الموسيقى التصويرية وظيفية تتلون سيميائيا وسياقيا وتتغير بتغير اللوحات والمشاهد الدرامية. وتتخذ الملابس دلالات سيميائية كأثواب الغجر عند ابن دنيال وابنته أو لباس العمال عند رضوان أو لباس الويسترن الأمريكي عند عاشور. إنها دلالات مختلفة ذات شفرة رمزية احتفالية. أما اللغة فهي لغة احتفالية تقوم على الحوار والشعر والرقص والغناء والفصحى والعامية والسخرية والمفارقة والفكاهة اللعبية. كما تتجلى الاحتفالية في تكسير الوحدات الثلاث: فهناك تعدد الأمكنة (المدينة المعاصرة- بغداد ابن الرومي) وتداخل الأزمنة (الماضي والحاضر والمستقبل) وتعدد الأحداث (قصة ابن الرومي- قصة سكان الحي القصديري مع المقدم) وتركيب اللوحات الدلالية المنفصلة التي تنزاح عن القالب الأرسطي الذي يتميز بالاتساق الدلالي (لوحة المدينة المعاصرة منفصلة دلاليا عن لوحة ابن الرومي على الرغم من وجود التوازي والتماثل البنيوي والإيقاعي).
خلاصة القول، إن «ابن الرومي في مدن الصفيح» خير نموذج درامي ونص مسرحي يعبر بكل وضوح وجلاء عن النظرية الاحتفالية باعتبارها بديلا للمسرح الغربي الأرسطي، كما أن هذا النص الاحتفالي يشكل مرحلة مهمة في تأصيل المسرح العربي وتأسيسه.
inaho nas fi motanawali aljami3 wahowa wadi7 tan9osoho ma3loma wa7ida wahiya kam min 7ikaya fi masra7iyat bno romi fi modoni asafi7
ردحذف